إستبعاد تطبيق القانون الأجنبي - الدفع بالنظام العام
تعد فكرة النظام
العام من الأفكار الأساسية في علم القانون عامّة ، ففي القانون الداخلي بفروعه
المختلفة هنالك قواعد قانونية آمرة لا يجوز مخالفة حكمها ، والسبب يعود إلى كون
هذه القواعد متعلقة بالنظام العام لتؤدي دوراَ أساسياً في تشكيل النظام القانوني
لكل دولة ، فهو يتلازم مع القاعدة القانونية لكي تحقق فعاليتها والهدف منها ، ومن
ثّمْ فإنه يشكل قيداً على إرادة الأطراف ؛
إذ يتواجد في داخله مجموعة من القواعد الأساسية التي يتعين تطبيقها على
الأفراد بصورة آمرة.
والملاحظ أن الأسلوب
المتبع في تنظيم العلاقات ذات الطابع الدولي من شأنه أن يجعل القاضي يطبق قانون أي
دولة ، طالما كان هذا القانون أكثر القوانين صلة بالرابطة العقدية واقدرها على حكم
هذه العلاقة ، فالقاضي يستطيع مقدماً التعرف على طبيعة الأحكام التي تقوده إليها
قاعدة الإسناد في كل حالة من الحالات المطروحة أمامه ولهذا يجب ، عند إعمال قواعد هذا القانون ،
احترام الحدود الثابتة فيه والتي لها قيمة قانونية معتبرة والتي لا يمكن مخالفتها،
وبالتالي عندما يكون القانون الأجنبي هو القانون الواجب التطبيق ، فإن تطبيقه يكون
مقيداً بعدم التعارض الجوهري بين محتوى ذلك القانون وبين النظام القانوني لقاضي
النزاع.
أولا- تعريف النظام العام:
إن مصطلح النظام العام يعد من المصطلحات التي يصعب تحديدها بدقة، كونه تعبير غامض عن مفهوم شامل مرن ، ولذلك من الصعوبة إعطاء تعريف جامع مانع له ، فأغلب المشرّعين فضلوا عدم وضع تعريف محدد له ، بل اكتفوا في وضعه على أساس فكرة المصلحة العامة سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية ، ولكن الفقه قد وضع عدة تعريفات تدور حول الفكرة نفسها منها " مجموع المصالح الأساسية للمجتمع أي الأسس والدعامات التي تمثل الحد الأدنى الذي لا يتصور بقاء
الجماعة بدونه ، تلك الأسس قد تكون ذات طبيعة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية "أما عن المشرع
الجزائري فقد سكت تماما عن تحديد مفهوم النظام العام واكتفى بالنص عليه ضمن
المادة24 منه المعدلة بالقانون رقم 05-10 المؤرخ في 20يونيو2005 بقوله" لا
يجوز تطبيق القانون الأجنبي بموجب لنصوص السابقة إذا كان مخالفا للنظام العام
والآداب العامة في الجزائر....."
وتجدر الإشارة إلى أن
فكرة النظام العام قد ظهرت معالمها لأول مرة في فقه مدرسة الأحوال الايطالية
القديمة ، حينما فرق ( بارتول ) في العصور الوسطى بين الأحوال الملائمة التي تمثل
القوانين التي تصاحب الشخص أينما وجد حتى لو غادر حدود الدولة ، والأحوال البغيضة
والتي تمثل القواعد التي لا تتعدى بآثارها حدود الدولة التي أصدرتها ، حيث إن هذه
التفرقة تشكل النواة لظهور فكرة النظام العام ؛ لأنها اعتبرت وسيلة لمنع تطبيق
القوانين الأجنبية المنافية للأسس التي يقوم عليها المجتمع.
وفي هذا الإطار ظهر
للنظام العام مفهومان النظام العام الدولي والنظام العام الداخلي ، فالنظام العام
الداخلي يعمل على الحد من إجراء تصرفات تمثل خروجاً على القواعد الآمرة في
العلاقات الداخلية، أما القوانين المكملة، فلا تعد من النظام العام الداخلي إذ
يجوز الاتفاق على مخالفتها، أما النظام العام الدولي فهو يمنع تطبيق القانون
الأجنبي الواجب التطبيق عن طريق استبعاده في إطار العلاقات ذات البعد الدولي ، أي
يتمثل في مجموعة من المبادئ أو الحلول المادية ( كمبدأ علمانية الزواج في فرنسا وزواج
المثليين في بعض الدول الأوروبية)، كما إن النظام العام الداخلي يسمح بتطبيق
قوانين أجنبية مثل مسائل الجنسية ، وإن كان لا يسمح بالاتفاق على مخالفة أحكامه ،
أما النظام العام الدولي فانه لا يمكن معه تطبيق قوانين أجنبية تخالف المبادئ التي
ينهض عليها،ولكن مع ذلك قد انتقد البعض تسمية النظام العام الدولي على أساس انه لا
يوجد نظام عام دولي، فالنظام العام – كقاعدة عامة يتصف بالوطنية ولكن النعت (
بالنظام العام الدولي ) يدل على أن مجال إعمال النظام العام في القانون الدولي
الخاص.
ثانيا- آثـــار النظام العام :
إن الدفع بالنظام
العام له أهمية كبيرة في حماية النظام القانوني لأي بلد، لكونه تدخلاً قوياً
وجدياً يطيح بقاعدة القانون الأجنبي ويمنع تطبيقها أمام القاضي الوطني ، إذ إن
قاعدة الإسناد تعتبر قاعدة إرشادية تختار القانون الواجب التطبيق دون معرفة
القانون الأجنبي المختار ابتدءاً، ومن ثّمْ فإن هذا الدفع يشكل صورة جديدة للدور
الوقائي الذي يقوم به النظام العام في مجال العلاقات الخاصة الدولية ومنهجية تنازع
القوانين،
وتلجأ المحكمة للدفع بالنظام العام إما
من تلقاء نفسها أو بناء على طلب احد أطراف النزاع، فإذا ما أشارت قاعدة الإسناد
الوطنية في القانون الجزائري مثلاً إلى تطبيق قانون أجنبي مختص ثم تبين للقاضي الجزائري
بأن هذا القانون يخالف النظام العام في دولته ، فانه يقوم باستبعاده ليحمي نظامه
القانوني ، وهو ما يسمى بالأثر السلبي ، ثم
يجب بعدها البحث عن قانون بديل للتطبيق للحيلولة دون حدوث فراغ تشريعي ،
وهو ما يسمى بالأثر الايجابي ، وإن القاضي قد يميز بين ما إذا كان الحق أو المركز
القانوني المراد الاعتراف به أو بآثاره قد نشأت في الخارج أو في دولته ، وهو ما
يسميه الفقه والقضاء بالأثر المخفف للنظام العام ، وكذلك التطرق للحالة التي يشترك
فيها النظام العام لدولة القاضي مع النظام العام للدولة التي قامت فيها العلاقة
وهو ما يطلق عليه بالأثر الانعكاسي ، وهذا ما سنتطرق إليه تباعاً.
1- الأثر السلبي (ألاستبعادي):
إن حماية المبادئ
العليا والأسس التي يقوم عليها مجتمع دولة القاضي تقتضي بأن يستبعد القانون
الأجنبي الذي يهدد هذه المبادئ ، إذ إن التعارض الكبير للقانون الأجنبي مع هذه
المبادئ الجوهرية لدولة القاضي تلزمه باستبعاد ذلك القانون من أجل حماية النظام
القانوني.
وقد اختلف الفقه في
مسألة استبعاد القانون الأجنبي ، أي هل يستبعد القاضي القانون الأجنبي بكامله،أم
يستبعد الجزء المخالف للنظام العام فحسب ؟.
فذهب رأي إلى ضرورة
استبعاد القانون الأجنبي استبعاداً كلياً مطلقاً ؛ لأن الهدف من إعمال الدفع بالنظام العام هو عدم السماح
لقواعد القانون الأجنبي بالاندماج في النظام القانوني الوطني ، نتيجة التنافر
القائم بينه وبين هذا النظام القانوني ، وهذا يعني إن الاستبعاد الكلي يتمثل في
الحالة التي تكون فيها نصوص القانون الأجنبي في العلاقة موضوع النزاع لا تقبل
التجزئة كما لو كان القانون الأجنبي الواجب التطبيق يجيز الزواج بين رجل مسيحي و
امرأة مسلمة في حين يعد ذلك مخالفة للنظام العام لدولة قاضي النزاع ، فالقاضي سوف
يستبعده كلياً ولا يعترف به .
بينما أكد الفقه
الغالب بأن الأثر السلبي لفكرة النظام العام ليس من شأنه استبعاد أحكام القانون
الأجنبي الواجب التطبيق كلياً ، وإنما
استبعاد الجزئية التي تتعارض مع النظام العام في دولة القاضي كي لا تتعطل قواعد
التنازع بالشكل الكامل، ولأن الدفع بالنظام العام ليس معادياً للقانون الأجنبي في
حد ذاته حتى يستبعده ككل ، بل هو دفع مقصود به درء تطبيق الحكم الذي يتعارض مع
الأسس التي يقوم عليها المجتمع ، وبالتالي يجب أن يكون الاستبعاد بالقدر الذي يحقق
من خلاله حماية القانون الوطني، وهذا هو الرأي الذي فضلناه لأن القاضي الوطني يعلم
ابتدءاً أنه لن يصادف تطابقاً كلياً بين أحكام قانونه والأحكام التي يتضمنها
القانون الأجنبي ، وهذا يتطلب منه أن يحاول التوفيق بينهما من دون أن ينكر وجود
القانون الأجنبي بأكمله .
وبناءاً على ذلك يمكن
القول إن إعمال فكرة الاستبعاد الجزئي تؤدي إلى تجزئة القانون الأجنبي المختص
والذي يؤدي بطبيعة الحال إلى تجزئة العقد الدولي ، إذ إن استبعاد جزء معين من
القانون الأجنبي وإخضاعه لقانون القاضي يترتب عليه تجزئة العقد الدولي ،لأن
المسألة سيحكمها قانونين القانون الوطني والقانون الأجنبي بحيث يستبعد المتعارض
منه ويطبق ما سواه من أحكامه ، وهذا يعني إن فكرة النظام ليس فقط قيدا على حرية
الأطراف في التجزئة وإنما قد تساهم في حصول التجزئة أيضاً، ولكن هذا الدفع لا يشكل
قيداً على حرية الإرادة في تحديد القانون الواجب التطبيق ، لأن الدفع بالنظام
العام يثار عند تطبيق قواعد التنازع بعد حدوث النزاع وعرضه أمام القاضي الوطني ،
ومن بعد ذلك فإن المحكمة تستبعد أيا كان من أحكام القانون الواجب التطبيق الذي
تراه مخالفاً للنظام العام والاستبعاد يقتصر على الجزء المخالف للنظام العام فحسب.
2- الأثر الايجابي ( تطبيق القانون الأجنبي ):
إذا تم استبعاد
القانون الأجنبي على أثر الدفع بالنظام العام أمام القاضي ، فإن المهمة لا تنتهي
عند هذا الحد ،لأن على القاضي أن يفصل في النزاع عن طريق البحث عن قانون بديل
للقانون الأجنبي المستبعد ، لذا يتم إحلال
قانون القاضي بدلاً من أحكام القانون الأجنبي التي تم استبعادها وهذا هو الأثر
الايجابي للنظام العام.
وتجدر الإشارة إلى أن
المشرّع الجزائري قد اكتفى بإظهار الأثر السلبي للنظام العام وهو استبعاد القانون
الأجنبي طبقا لأحكام المادة (24) من القانون المدني الجزائري ، وان الرأي الغالب
يتجه إلى وجوب تطبيق قانون القاضي في هذه الحالة بدلاً من القانون الأجنبي الذي
يتعارض مع النظام العام في الجزائر ، ولكن هذا الرأي قد تعرض للنقد ، لأن قواعد
التنازع تهدف إلى إسناد الرابطة العقدية إلى انسب القوانين لحكمها ، ومن ثّمْ فإن
استبعاد قانون دولة ما لمخالفته للنظام العام في دولة القاضي قد لا يجعل من
القانون الأخير قانوناً ملائماً لحكم العلاقة القانونية ، لذا فإن أثر النظام
العام لا يتعدى في بعض الحالات استبعاد أحكام القانون الأجنبي الواجب التطبيق.
ولذلك تم اقتراح حلول
أخرى في هذا المجال وظهر لنا اتجاهين:
الاتجاه الأول: أخذ به القانون الألماني وبمقتضاه يقوم القاضي بالبحث في
القانون الأجنبي ذاته المخالف للنظام العام عن قاعدة قانونية أخرى صالحة للتطبيق
بدلاً من القاعدة المخالفة للنظام العام ، فإن لم يجد فيه قاعدة صالحة للتطبيق
فبإمكانه بعدها أن يطبق قانونه الوطني.
والاتجاه الثاني: يرى ضرورة البحث عن القانون الأكثر ملائمة والأقرب إلى العلاقة
القانونية من أجل سد الفراغ التشريعي على أثر استبعاد القانون الأجنبي، إذ إن
قانون القاضي قد يكون بعيداً كل البعد عن العلاقة موضوع النزاع وقد لا يتفق مع النظام العام لهذه الدولة.
وهذا الحل يعد أنسب
الحلول ، ونحن نؤيده كونه يتفق مع الهدف الذي ترمي إليه قواعد التنازع والذي يتمثل
في ضرورة إسناد العلاقة إلى القانون الأكثر صلة بها.
3- الأثر
المخفف للنظام العام بالنسبة للحقوق التي اكتسبت في الخارج:
إن الكلام عن الأثر
السلبي والأثر الايجابي للنظام العام يكون في الحالة التي يثار فيها الخلاف عن حق
أو مركز قانوني يراد إنشاؤه لأول مرة في دولة القاضي المختص . ولكن ما هو الحل لو
كان ذلك الحق أو المركز القانوني قد تم إنشاؤه واكتسابه في الخارج وأريد الاحتجاج
به في دولة القاضي فحسب ؟.
ففي الحالة الأولى: يتم استبعاد القانون الأجنبي الواجب التطبيق على المركز
القانوني الذي يراد تكوينه في دولة القاضي ، إذا كان تطبيق القانون الأجنبي
متعارضاً مع النظام العام في هذه الدولة.
أما الحالة الثانية : الخاصة بالمراكز القانونية التي تم إنشاؤها في الخارج ، فلا
يكون للنظام العام الأثر نفسه الذي يكون له بصدد مركز أو علاقة تم إنشاؤها في دولة القاضي نفسها ، والسبب هو أن الشعور العام لا يتأثر
إزاء مركز أو علاقة تم إنشاؤها في الخارج بالقدر نفسه الذي يتأثر به في حالة ما
إذا أريد إنشاء العلاقة نفسها داخل إقليم دولة القاضي، لذلك يستطيع للقاضي التسامح
والاعتراف بهذا المركز القانوني .
ويفسر بعضهم الأخذ
بفكرة النظام العام المخفف ( بفكرة احترام الحقوق المكتسبة ) ، لأن الحق قَد تكوّن
في الخارج بطريقة صحيحة ، وبالتالي فمن واجب القاضي الاعتراف به لأنه قد نشأ
بناءاً على حق مكتسب لذوي الشأن ، غير إن فكرة الأثر المخفف ليست مطلقة فالقاضي لا
يمكنه تطبيقها بصورة آلية ،إذ إن هذا المركز القانوني المراد الاعتراف به قد يكون
متعارضاً مع النظام العام في دولة القاضي لدرجة خطيرة بحيث لا يمكن تجاهلها على
الرغم من أنه قد تكون في الخارج.
4-
الأثر الانعكاسي للنظام العام:
ويعني اشتراك النظام
العام لقانون الدولة التي قامت فيها العلاقة مع النظام العام لدولة القاضي في كثير
من المفاهيم الأساسية ، وهو بهذه الصورة لا يشكل قيداً على حرية الأطراف في اختيار
قانون العقد الدولي، لأنه مادامت العلاقة العقدية قد نشأت صحيحة وفقا للنظام العام
في الدولة التي أبرم فيها العقد ، فإنه بالإمكان التمسك ببنودها في دولة القاضي
لاشتراك النظامين العامين في تلك المفاهيم ، واستناداً لهذه الفكرة فإن القاضي
سيلتزم بحماية النظام العام في دولته بحمايته للنظم القانونية الأجنبية في الدول
الأخرى .
ونتفق مع جانب من
الفقه بتأييد فكرة الأثر الانعكاسي ؛ لأن فيها تبسيط لحلول تنازع القوانين ولكونها
تساهم في التقارب بين فكرة النظام العام ذاتها من دولة إلى أخرى ، بشرط أن لا تؤدي
فكرة الأثر الانعكاسي إلى حصول تعارض بين النظام العام في الدولة الأجنبية و
النظام العام السائد في دولة القاضي ، لأنه في حالة التعارض سيتم تغليب النظام
العام لدولة القاضي ، إذ إن الاعتداد بالنظام العام للدولة الأجنبية ليس إلا
استثناء من القواعد العامة لتنازع القوانين.
ملاحظة هامة : يرجى من الطلبة
النظر في القوانين المحينة و المعدلة...
لتحميل الورقة البحثية الجاهزة للطباعة يرجى
النقر هنا
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق