المدارس الفقهية في تنازع القوانين
عرف
تنازع القوانين في المجتمعات القديمة، حيث كانت لغة العقد الذي يتم بين اليوناني
والمصري هي التي تحدد القانون الواجب التطبيق عليه، فإن كانت اللغة يونانية طبق
القانون اليوناني، واذا كانت اللغة مصرية طبق القانون المصري. أمّا المجتمع الروماني فلم
يعرف تنازع القوانين إلاّ في المرحلة التي استقلت فيها الأقاليم البربرية عن بعضها البعض،
فكان يطبق على الرومان القانون الروماني، وعلى الأجانب قانونهم الخاص بهم( شخصية القانون المطلق).
واختفى
تنازع القوانين في عهد النظام الإقطاعي، إذ كان سيد الإقطاعية يفرض نظامه على
مقاطعته دون منازع(إقليمية
القانون المطلق)،
إلاّ في شمال ايطاليا أين لم يعرف الإقطاع، حيث ظهرت جمهوريات
صغيرة وكانت مركزا للتجارة،
فدخل التجار من مختلف المقاطعات في علاقات تجارية،
وتشكلت طبقة برجوازية رأسمالية تريد الإطاحة بالنظام الإقطاعي الذي يعيق الحركة التجارية،
بالتالي بدأت تستقل المدن الايطالية وأصبح لكل مدينة قانونها، الأمر الذي نشأ عنه
من جديد تنازع للقوانين، مما دفع الفقهاء إلى محاولة إيجاد الحلول الملائمة لمسائل التنازع
فظهرت عدّة مدارس، نلخص اتجاهاتها فيما يلي:
v
المدارس الفقهية القديمة:
هي المدارس الأولى التي حملت المفاهيم التقليدية لتنازع القوانين، والتي حاولت تبرير الأحكام القضائية التي طبق فيها القضاة قوانين أجنبية في حالات، وقوانينهم القضائية في حالات أخرى على الرغم من وجود عناصر أجنبية في الخصومة. ونورد أهمها فيما يلي:
أولا- مدرسة
الأحوال
الإيطالية
القديمة(مدرسة الحواشي): الأحوال يقصد بها الأعراف و العادات الخاصة التي كانت سائدة في العرف
التجاري الإيطالي
ظهرت
في القرنين الثاني عشر والثالث عشر في ايطاليا، وعلى رأسها الفقيه Bartolus
،وهي
قائمة على أساس تحليل القوانين المتزاحمة لحكم العلاقة، من حيث كونها قوانين إقليمية تطبق على من يقطنون الإقليم، أم شخصية تتبع الشخص أينما ذهب، بالتالي اعتمدت على مبدئي الإقليمية والشخصية معًا. وهذه النظرية قائمة على دراسة كل حالة على حدة،
دون محاولة إيجاد حلول عامة تطبق في كل زمان ومكان وقد
جاءت هذه النظرية بفكرة الفئات المسندة، حيث قسمت القواعد إلى موضوعية تخضع
لقانون المحل، وإجرائية تخضع لقانون القاضي. كما ميّز فقهاؤها بين الأحوال العينية التي
يطبق عليها قانون مكان إ برام العقد، والأحوال المالية الخاضعة لقانون المحل، والأحوال الشخصية
الخاضعة لقانون الجنسية، كما أخضعت هذه النظرية الجرائم جنائية كانت أو مدنية
لقانون مكان وقوعها.
وجاءت
هذه النظرية أيضًا بفكرة النظام العام كعامل يحول دون تطبيق القانون الأجنبي،
حيث ميّز أنصارها بين أحوال مستحسنة يمكن تطبيقها، وأخرى مستهجنة يتم استبعادها.
غير
أنّه عيب على هذه النظرية عدم وضوح مبدئها العام، وعدم وضع قواعد مسبقة لحل
مشكلة التنازع، إنّما اكتفت بوضع حلول خاصة لحالات معيّنة.
ثانيا- مدرسة
الأحوال
الفرنسية:
تزعمها
الفقيهان D’Argentré و Dumoulin أمّا الأوّل فقد اعتمد مبدأ الإقليمية كأصل
عام لحل مسائل التنازع ومبدأ الشخصية كاستثناء. بحيث قسّم الأحوال إلى عينية وشخصية،
أخضع الأولى إلى مكان وجود العقار والثانية لمكان الموطن، وأخضع المنقول أيضًا
لمكان الموطن.
أمّا
Dumoulin فقد
كان من أهم إسهاماته ابتداعه لفكرة التكييف، وقد لاقت هذه النظرية
نجاحًا في أوروبا، حيث أنّها اعتمدت معيار عام تبنى عليه الحلول بدلاً من التفكير في كل نزع على حدى، وهو تطبيق مبدأ الإقليمية كأصل ومبدأ الشخصية كاستثناء وتقسيم الأحوال
إلى عينية وشخصية.
غير
أنّ هذه النظرية تعاني من نقص، إذ ظهرت أحوال مختلطة لها علاقة في آن واحد
بالأحوال العينية والأحوال الشخصية، عجزت عن حلّها.
ثالثا-
المدرسة
الهولندية:
ظهرت
في القرن السابع عشر بزعامة Bourgundus ،
Bourgogne وغيرهما،وهي
تدعو إلى تطبيق القانون الوطني تجسيدا لسيادة الدولة، أونّه لا يمكن للقاضي أن يطبق القانون الأجنبي إلا على أساس فكرة المجاملة
الدولية التي يقدّرها هو أو المشرّع الوطني.
بالتالي
تعد قواعد التنازع التي على أساسها يطبق القانون الأجنبي غير ملزمة. وقد قسمت هذه
المدرسة الأحوال إلى عينية، شخصية ومختلطة، وكانت لا تميل كثيرا إلى مبدأ شخصية القوانين.
وقد
أخذ على هذه النظرية اعتمادها على فكرة المجاملة الدولية والتي لا تملك ضوابط أو
حدود لمداها، فيمكن التوسيع أو التضييق من مجالها، كما لا تعترف بإلزامية قواعد التنازع.
إن
ما
يمكن
ملاحظته، أنّه عدا المدرسة الإيطالية التي اعتمدت كلا من مبدئي شخصية
القوانين وإقليمية القوانين، فإنّ المدارس الأخرى قد اعتمدت كأصل عام مبدأ إقليمية القوانين،
الأمر الذي يحد من إعمال قواعد التنازع، مما أدى إلى ظهور المدارس الفقهية الحديثة.
v
النظريات الفقهية الحديثة:
ظهرت
في القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين، وهي نظريات بدأت بوضع مبدأ عام مسبق، تخضع له العلاقات، ويتم اللجوء إليه لإيجاد الحلول، عكس النظريات القديمة، كما اتجهت إلى الأخذ بمبادئ جديدة كمبدأ الشخصية ومبدأ العالمية.
أولا- المدرسة
الألمانية )فقه Savigny ):
انتقد
Savigny فكرة
المجاملة الدولية وذهب إلى القول بأنّ الدولة تطبق القانون الأجنبي
في إقليمها بناءً على التزام دولي، فالدول الأوروبية، باعتبار وحدة الديانة(المسيحية( و وحدة القانون)القانون الروماني(الذين يجمعانها، ذات تشريعات متقاربة، مما يؤدّي
إلى إمكانية إيجاد قواعد مشتركة ومقبولة بينها تساعد على تطبيق قوانين بعضها البعض،
ويجعل من الحل منهجًا عالميا. وهذا ما عبّر عنه ب " مبدأ الاشتراك القانوني".
وبعد
وضع المبدأ العام لفكرة التنازع، اتّجه Savigny إلى البحث عن كيفية تعيين القانون
الواجب التطبيق، ولجأ إلى فكرة التركيز المكاني للعلاقات القانونية. فيكون مقر الشخص
موطنه، و مقر الأموال مكان تواجدها، ومقر الالتزامات التعاقدية مكان تنفيذها، ومقر
الأفعال الضارة مكان وقوعها.
غير
أنّ ما يؤخذ على هذه النظرية اعتمادها على التركيز المكاني للعلاقات القانونية الأمر الذي
يصعب تحديده.
ثانيا-
المدرسة
الإيطالية
الحديثة
)فقه
Mancini )
انطلق
Mancini في
صياغة نظريته من مبدأ القومية، حيث من حق الأفراد الذين تجمعهم
مقومات العرق والدين واللغة والتقاليد أن يطبقوا قوانين مستمدة من هذه المقومات، وهذا
أينما حلّوا وحيثما وجدوا، وهذا هو
مبدأ
شخصية القوانين.
غير
أنّه استثناءً يمكن تطبيق مبدأ الإقليمية فيما يتعلق بالنظام العام، الشكل الخارجي للتصرفات، وكذا ترك حرية للمتعاقدين
في اختيار القانون الواجب التطبيق على عقدهما. كما وسعت هذه النظرية من مجال
الأحوال الشخصية ليشمل المواريث والنظم المالية المقترنة بعقد الزواج.
لكن
يعاب على هذه النظرية اعتمادها الكبير على مبدأ الشخصية مما يجعلها مقتصرة على
الدول المصدّرة للأفراد التي تكثر الهجرة منها، وعدم إمكانية تطبيقها عمليا. كما أنّ اتساع
مجال الأحوال العينية جعل الاستثناءات تفوق الأصل فمن الأفضل أن تعدّ كلها قواعد
عامة.
ثالثا- المدرسة
الفرنسية
)فقه
Pillet ):
رأى
الفقيه Pillet أنّ القانون إمّا أنّه وضع لحماية مصلحة الفرد، أو أنّه وضع لحماية مصلحة
المجتمع. فإذا كنا بصدد قانون يهدف إلى حماية الفرد، فإننا نطبق القانون الشخصي
لهذا الفرد )مبدأ الشخصية(، أمّا إذا كنا بصدد قانون يهدف إلى حماية المجتمع، فنطبق
القانون الوطني على العلاقة مهما كان أطرافها وموضوعها )مبدأ الإقليمية(، ولأجل ذلك
لا بدّ من تكييف العلاقة القانونية محل النزاع، فهل تعني حق الفرد أم حق المجتمع، ثمّ نختار
القانون الأكثر ملائمة لحلها.
وحسب
هذه المدرسة فإنّ الحقوق التي تنشأ صحيحة في ظل قانون ما، تبقى سارية في دول
أخرى، طالما كان هذا الحق معترّف به في هذه الدولة وكان لا يخالف النظام العام فيها.
رابعا-
نظرية
Bartin:
وكان
متأثرا
بالفقيه Savigny ،
وقد رأى أنّ تنازع القوانين هو تنازع بين السّيادات. وقد ربط نظام القانون الواجب التطبيق على نزاع متعلق بعلاقة ما بالقسم القانوني الذي تنتمي إليه هذه العلاقة، وهو ما جعله يضع نظريته المشهورة في التكييف، والذي يعرّف بأنّه وضع العلاقة القانونية في نظام معيّن، ومثال ذلك وضع الطلاق في فئة الأحوال الشخصية.
خامسا - نظرية Devareilles- Sammieres
يرى
هذا الفقيه أنّ الميراث يخضع لقانون الموقع إذا تعلّق بعقار، وبقانون الموطن إذا تعلّق
بمنقول. وقد اعتنق مبدأ الإقليمية في نظريته حيث يرى أنّ القانون شرّع ليطبق على العلاقات
التي تنشأ في النطاق الإقليمي للمشرّع،وأنّه لابدّ من تطبيق القانون الفرنسي على ما
يقع في فرنسا ولو رفع النزاع أمام قضاء غير فرنسي، و لا يعتبر ذلك في أي حال من الأحوال
امتدادّا للقانون الفرنسي، وأنّ الحقوق التي تكتسب صحيحة في ظل قانون ما ،تبقى كذلك
في مواجهة كل الدول.
و إذا
كان الأصل لديه هو إقليمية القوانين فقد وضع الاستثناءات التالية:
· يطبق
على الحالة والأهلية قانون دولة الشخص.
· يطبق
على مي ا رث المنقول قانون الموطن الأخير للمتوفى.
· يطبق
على العقد القانون الذي يختاره المتعاقدان.
· يطبق
على الشكل الخارجي للتصرفات قانون محل إبرامها.
وتعتبر
هذه النظريات منطلق الاتجاه الحديث في تنازع القوانين و لا يزال العمل بها حتى
الآن.
ملاحظة هامة : يرجى من الطلبة
النظر في القوانين المحينة و المعدلة...
لتحميل الورقة البحثية الجاهزة للطباعة يرجى
النقر هنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق